مشروع "حياة في جامعة الأقصى" وحراك الطلبة الثقافي

الرئيسية مشروع "حياة في جامعة الأقصى" وحراك الطلبة الثقافي

على أدراج جامعة الأقصى في غزة، يجتمع الطلاب والطالبات بعد انقطاع طويل، يناقشون مفاهيم متنوعة كالثقافة، وفعل التعلم، والهوية، والجامعة؛ يفككونها ويعيدون تعريفها، ويطرحون أسئلتهم حول وضع الجامعة الحالي، ويسائلون المستقبل الذي يريدونها فيه.  في جامعة الأقصى، يجتمع الطلبة دون حواجز أو قيود، ودون اتباع سطوة معرفية تُسقط عليهم، يحاولون بناء نموذجهم الخاص في التفكير والعمل، بشكل أفقي وعضوي ينبع منهم، ويحاكي انشغالاتهم واحتياجاتهم، يمسكون بزمام الأمور، ويحاولون بناء نموذجهم الجامعي الذي لا يقتصر على الأكاديميا، إنما يتسع ليخلق من الجامعة مساحة تفكير ناقد، وفعلاً ثقافياً مجتمعياً.

 

أثمر مشروع "حياة في الجامعة" في مرحلته الحالية عن تشكيل 7 مجموعات طلابية، يتطوع فيها 35 طالبة وطالباً، وتستخدم أدوات تعبير فني وثقافي متنوعة، منها الفنون البصرية، والمسرح، والأدب، وأشكال أخرى من التراث غير المادي.  وقد بدأت هذه المجموعات من خلال توجهاتها النهضوية في السياق الثقافي بتنفيذ أنشطة عامة، تخاطب الطلاب مباشرة، وتشجعهم على الانخراط في فعل السؤال والبحث، وتعزيز المبادرات، والمسؤولية الجماعية، التي شارك فيها ما يزيد على 400 طالب حتى الآن.

 

فيما كانت المراحل الأولى من المشروع، تؤسس وتمهد للمراحل التي ستتبعها، وقد اعتمدت على الانكشاف على السياق الثقافي الفلسطيني بشكل مفصلي، بحيث تقاطعت فيها الهوية الوطنية والهوية الثقافية الفلسطينية، من خلال تنفيذ زيارات لفعاليات ومراكز ثقافية خارج أسوار الجامعة، ونقلها إلى الجامعة، بعد تطويرها بشكل إبداعي، هذا إلى جانب تنفيذ مجاورات هدفت إلى تفكيك المعاني، لإعادة إنتاجها وصياغتها كمعانٍ جديدة إيجابية.

 

بماذا تختلف جامعة الأقصى؟

تشكل جامعة الأقصى بفرعيها في مدينتي غزة وخان يونس واحدة من أكبر الجامعات الحكومية في القطاع، وبذلك تعتبر واحدة من أبرز الجامعات وأكثرها طلبةً.  فيما تشكل الجامعة، بشكل عام، واحدة من أهم المساحات للطالبات، بحيث يرى فيها الأهالي، أو معظمهم على الأقل، مساحة آمنة، وقد تكون المساحة الوحيدة التي يذهبن إليها، وينخرطن في أنشطتها وبرامجها.  لذلك، فإن وجود مشروع "حياة في الجامعة" داخل أسوار هذه الجامعة، بالتحديد، يشجع الطلبة، بشكل عام، والطالبات بشكل خاص، على الانخراط في الفعل الثقافي.

 

وعلى الرغم من صعوبة الاختلاط بين الجنسين في الأنشطة، فإن تمسك المشروع بهذا التوجه، وبضرورة العمل التشاركي بينهما، أحدث اختراقاً واضحاً، وهو ما ظهر، بشكل جلي، ضمن مبادرات المشروع، بحيث شكلت الطلبات في المرحلة الأولى من المشروع ما نسبته 85%، واليوم هن 80% من المشاركين، إلى جانب حضورهن بشكل مؤثر وقيادي، فجميع المجموعات الفاعلة ضمن المشروع تقودها الطالبات.

 

عن ضرورة الفعل الثقافي في الجامعات

تميزت فترة السبعينيات والثمانينيات في فلسطين بصعود واضح في الفعل الثقافي الجامعي، وصولاً إلى التسعينيات، وكانت الحركة الطلابية لاعباً مركزياً ذا أثر سياسي واجتماعي وثقافي واضح، وقد شهدت هذه الفترة نهضةً فكرية تعززت من خلال النوادي واللجان الثقافية في الجامعات، التي ظهرت عبر إقامة المهرجانات، وتنفيذ المحاضرات اللامنهجية، وعقد الندوات، وتنظيم المسابقات الثقافية والأدبية، وإصدار النشرات والمجلات.  هذا، وقد تخطت هذه الأنشطة فضاء الجامعة، لتضم كافة الشباب والشابات النشطاء حينها.  إلا أن هذا النشاط قد تراجع بشكل ملحوظ، بتراجع المشهد الثقافي بشكل عام، الأمر الذي يختلف من منطقة إلى منطقة، بناءً على خصوصيتها السياسية/الاقتصادية/الاجتماعية، ليشكل الفعل الثقافي الطلابي مدخلاً مهماً لمتابعة المشهد الثقافي الفلسطيني العام.

 

لكن، وبشكل مؤكد، فإن هذا التأثير لم ولن يكن أحادي الاتجاه، فإن الفعل الثقافي الطلابي في الجامعات، قد يلعب، أيضاً، دوراً مهماً في تغيير الواقع الثقافي العام في فلسطين، كون الجامعات تشكل ملتقى زخماً، غنياً وحيوياً ومتنوعاً، مليئاً بالطاقة والتعطش للفعل.  فيهتم النشاط الطلابي ويتداخل ليجمع بين معالجة قضاياه الخاصة التي يصطدم بها في الجامعة، مع انشغاله بالشأن العام، فيرى قضايا مجتمعه تتداخل مع اليومي الخاص به، وبذلك يستقر موقع الفعل الطلابي الثقافي في قلب المشهد العام، يؤثر فيه ويتأثر به.

 

ومع خصوصية الظرف الفلسطيني، تأتي خصوصية أنشطته، وأساليب تنفيذها، وكذلك خصوصية الوضع في غزة، الذي تنعكس عنه خصوصية في الأنشطة وطرق تنفيذها.  ووعياً بذلك، فإن مشروع "حياة في الجامعة"، يحاول خلق كل تأثير صغير، حتى وإن احتاج لفترات طويلة، على أن يكون ذا غرس عميق.  لذلك، شكل احترام السياق وخصوصيته والتعاطي معه، حلقةً مهمةً في عملية التفكير بالأنشطة والمبادرات، مع الحفاظ على دور المشروع ومسؤوليته في التغيير.

 

يقول الباحث في المشروع مرعي بشير في هذا السياق: "إن "مشروع حياة في الجامعة" يعمل، بشكل أساسي، الآن على تحريك المياه الراكدة.  وعلى الرغم من أن جامعة الأقصى مليئة بالتفاصيل والصعوبات، فإن سيرورة التغيير تستوجب علينا خوض الطريق الصعب في معظم الأحيان، ومن المؤكد أن ذلك يحتاج إلى نفس طويل".

 

مع الوقت وعلى الرغم من أهمية الفعل الثقافي في الجامعات، فإن معظم المبادرات في الجامعات الفلسطينية قد صارت مبادرات متقطعة أو موسمية، تعاني معظمها من ضعف في المراكمة، وانحصارها في الجانب الأكاديمي، على حساب الجانب الإبداعي والثقافي على الرغم من تداخل الجانبين معاً، بحيث يعطي الجانب الثقافي أبعاداً جديدة للأكاديمي، ويجعله أكثر ديناميكية، وقدرة على التطور.  ومن هنا، تأتي ضرورة تعزيز مشروع حياة في الجامعة، ففي ظل هذه الظروف الحادة، وغياب اهتمام المؤسسات التعليمية، ومؤسسات المجتمع المدني في غزة بالثقافة –نتيجة لأولويات فرضها الوضع السياسي والمجتمعي- صارت الجامعات والطلبة في أمسِّ الحاجة لحركة الفعل.

 

يتابع المشروع عمله معتمداً على فلسفة المراكمة والتطوير المستمر بحسب ما يذكره بشير، الذي يشير إلى صيرورة العمل بقوله: "الشابات والشباب المشاركون في المسار كانوا على علم بأن وجودهم فيه هو وجود متحرك، ينتقل "من" "إلى"، بالبدء بتكوين المعاني، وهو الخط الأساسي للمسير، دون إسناد أي دور تنفيذي أو إنتاجي لهم، بحيث اقتصر في هذه المرحلة على الانكشاف والتعرض للتجارب والمعارف المختلفة، حتى بدأوا يكونون ملامح تمكنهم من أن يبنوا عليها الخطوة التالية، بالاستناد إلى المعطيات التي راكموها، وهي المرحلة التي بدأنا نسأل السؤال: أين نرى أنفسنا؟"، لتصب هذه الرحلة في تعميق فهم الشباب المنخرطين في مراحل المشروع الأولى للواقع الثقافي الفلسطيني، وتمكينهم، كطلاب، من رؤية أنفسهم كلاعب مهم ومؤثر فيها، بينما اشتملت المرحلة الثانية على فعل قيادة ثقافية، بشكل أوضح، وأكثر مباشرة.

 

يحاول المشروع جوهرياً بناء علاقة جذرية بين الطالب والثقافة، بعيداً عن أي هيمنة، وأن يستعيد الجامعة بشكلها المنفتح ثقافياً والفاعل بطبيعة الحال، وكسر حالة الجمود التي خلقتها ظروف الحصار، التي تتعدى صورتها الكلاسيكية كونها حصاراً غذائياً أو حصاراً على الأمور المادية، وصولاً إلى الحصار الثقافي، وانغلاق القطاع في معظم الأحيان على ذاته، وصعوبة التنقل، والانكشاف على تجارب أخرى. عوضاً عن تبعات جائحة كورونا، التي قاربت حال الجامعات من حال فأر في عجلة، يركض بشكل مستمر دون توقف، وبوجهة محصورة جداً تحاول فقط النجاة بتنفيذ برامجها الأكاديمية ضمن السقف الزمني المطلوب.

 

فيما يعمل المشروع، أيضاً، على أن يستمر في مساحات الجامعة المفتوحة، بعيداً عن القاعات المغلقة، وعلى أن يتخذ الفعل الثقافي شكلاً نديّاً يجمع بين المقدم للنشاط (وهو أحد طلاب الجامعة المبادرين في المشروع) والمشارك فيه (وهو أيضاً طالب)، بكونهم أقراناً، وذلك ما يمنح التبادل المعرفي هناك بعداً جديداً.  فعلى سبيل المثال، في فعاليات صيف ثقافي "تجوال حراس الذاكرة الفلسطينية"، توجه الطلاب المنخرطون في المشروع إلى زملائهم، لطرح بعض الأسئلة عليهم وبشكل عفوي، التي تناولت فنانين، وأدباء، وأماكن، ولوحات، واقتباسات، وأسماء روايات، وتبعها دعوتهم لحواريات ناقشوا ضمنها الفعاليات ضمن هذه السلسلة، ومن خلال حوار مباشر، تواصل الطلبة مع بعضهم البعض، وطرحوا مجموعة من الأسئلة؛ ماذا نعرف عن هويتنا؟ رأينا بالفعل الثقافي؟ ما هو دورنا كطلاب؟ وما يمكننا فعله في المراحل القادمة؟

 

يركز المشروع في مراحله الأخيرة على مسار التأمل والبحث التشاركي، الذي ستبدأ المجموعات السبع خلاله بالتوجه إلى مجموعات جديدة من الطلاب، ومشاركتهم في استكشاف التحديات التي يمرون فيها كطلبة داخل الجامعة، وما هو شكل الجامعة التي يودون الوصول إليها، بحيث تأخذ نتائج هذه النقاشات إلى ما يسمى الورشة، وهي المرحلة التي يتم خلالها التفاكر أكثر حول نتائج هذه المحاورات، لتتبلور مخرجات الورشة على شكل مبادرات يتم العمل عليها داخل الجامعة.

 

الفعل الثقافي .. أولاً

على الرغم من أهمية مشروع "حياة في الجامعة" المركبة، من ناحية خلق مضامين وتحريك سياق عام، فإن الفعل نفسه، والحركة ذاتها هي قيمة مهمة ضمن المشروع، بحيث يهدف المشروع عوضاً عن تمكين الشباب في جامعة الأقصى معرفياً وثقافياً، إلى تمكنيهم من أدوات يصلون بها إلى محل قيادة للفعل الثقافي، بحيث يأخذ هذا المشروع الفعل غير المرئي إلى فعل مرئي، ويحاول خلق حالة عامة، ينتشر بها هذا الجو داخل الجامعة، ويؤثر ليس على الطلبة فحسب، إنما على مستوى العمال والموظفين في الجامعة، وطواقمها الإدارية والأكاديمية، وحتى رجال الأمن، لتغيير صورة قد صارت نمطية عن الجامعة، وشكل الحركة فيها.

وبهذا، يحاول المشروع تمهيد الطريق للمبادرات المستقبلية، بحيث يأمل من خلال تطويع المكان لتقبل مثل هذا الحراك، أن يجعل العمل الثقافي مستقبلاً أسهل على الطلاب، وأن يتمكن الطلبة المستقبليون من تنفيذ أنشطتهم داخل الجامعة بمرونة أكثر، وبمعيقات أقل.

 

يشكل هذا المشروع، بمساراته المختلفة، استعادة وتعزيزاً لأشكال التعبير المختلفة، وتشكل هذه المهمة الأساسية التي على الجامعات الفلسطينية أن تحافظ عليها وتعززها في ظل الاحتلال، وذلك بالتركيز على جهد الطلاب المستقل، لا الحزبي، الذي قد يؤول إلى تهميش بعض الأدباء على سبيل المثال.

 

الكاتبة ترتيل معمر