غزة: مبادرات في زمن الإبادة

الرئيسية في القطان الأخبار غزة: مبادرات في زمن الإبادة

طالت الإبادة الجماعية الدائرة حتى اللحظة في قطاع غزة أشكال الحياة كافة، بما في ذلك القطاع الثقافي الذي طالته الإبادة بالنسف المتعمد لكل مكوناته، ومسح الإرث الثقافي والفني، وتدمير المراكز الثقافية، والمراسم، والمواقع الأثرية، وإحراق المكتبات والأرشيفات، ... وغيرها، إلى جانب تهجير وتشريد وقتل العشرات من الفنانين والأدباء، والباحثين، والأكاديميين. وصارت غزة، بأهلها، وإرثها، وكتبها، ولوحاتها الجميلة، وصورها، مباحة، تجابه المحو.

كثرت المواد المنشغلة بجدوى ودور الثقافة والفن في ظل إبادة دموية قائمة، كما كثرت المواد التي تتطرق إلى تراتبية أولويات التدخلات أو حتى التراتبية في الخسارات والاحتياجات.  فكيف يمكن الحديث عن خسارة البيت مقابل خسارة الأرواح، أو خسارة المكان مقابل الجوع والعطش والآلام والجراح البدنية؟! أما الأثر النفسي والعقلي والوجداني، ومؤشرات مستقبل هذه الأحداث على صحتهما، وما سيترتب على ذلك من احتياجات أساسية، فينظر إليه على أنه الأثر الأقل إلحاحاً في اللحظة.

يقول لنا الصديق مهدي كريرة عن إصراره على إنشاء مسرحاً للدمى بإمكانيات تكاد تكون معدومة، وحمله والتنقل فيه بين مراكز النزوح رغم صعوبة ذلك وخطورته: "أحد الأسباب هو أننا نود بناء بلدنا، كما نود بناء أرواحنا، بالطريقة التي تعبر عنا وتتوافق مع عطائنا وطموحنا الداخلي.  وحتى نمنع الاحتلال من أن يجردنا من إنسانيتنا ومن آمالنا وطموحاتنا، وأن يسلبنا مساحاتنا، ونواجه مخططاته التي تهدف إلى جعلنا نتقوقع على ذاتنا". يتوافق قول كريرة مع قول الفنان باسل المقّوسي، الذي ظل يردد: "أرسم لأحاول البقاء إنساناً مستيقظاً وحساساً، وحتى لا تسلب الحرب كرامتي وإنسانيتي".

لسماع مقابلة الفنان مهدي كريرة كاملة من هنا

في هذا التقرير، نتتبع بعض المبادرات، التي نفذها زملاؤنا في غزة بأدواتهم الفنية، البصرية منها والأدائية، ضد عنف أحداث الإبادة وآلة القتل المستمرة، موظفين التعبير الفني لهدف واحد عام، وهو التخفيف من وطأة الحرب على الأطفال في مختلف أماكن تواجدهم، والحفاظ على إنسانيتهم ومشاعرهم، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه رغم كل محاولات القتل والتدمير، بالسعي إلى الحياة والجمال والتكاتف رغم قهر الواقع.

يركز هذا التقرير على مبادرات المنشطين والمنسقين الذين يعملون مع الأطفال دون تتبع مبادرات المعلمين، أو مبادرات المساعدات الإغاثية، ... وغيرها الكثير، وخلال فترة زمنية محددة، حيث أنهم ما زالوا ينفذون مبادراتهم في المناطق المختلفة، وبأدوات متنوعة.

في مركز إيواء مدرسة الفاخور في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، حيث لا ماء ولا طعام، يركز مدرب الفنون الأدائية أحمد طافش على أداة الصوت، في التفريغ النفسي للأطفال، حيث عمل مع ما يقارب 24 طفلاً، من خلال تدريبهم على غناء أغنية، وعزف إيقاعها بأدوات بسيطة كالأخشاب وأواني الطعام الفارغة.

يركز طافش على الغناء الجماعي، لتعزيز التناغم بين المشاركين، الأمر الذي يؤسس له من خلال أنشطة مختلفة تعزز الأداء الجماعي والتعاوني، بهدف تقوية الروابط بين الأطفال النازحين من مناطق مختلفة، وخلق شعور بالإسناد والقوة.

 

كذلك مدرب الفنون الأدائية يوسف حسب الله، الذي يستخدم أدوات التفريغ الحركي، مع 27 طفلاً/ة، أعمارهم ما بين 7-15 سنة، في مستوصف الحرية بحي الزرقاء شمال شرق مدينة غزة، للغاية ذاتها، وهو تعزيز الأداء الجماعي والعمل بشكل تعاوني، وذلك من خلال توظيف المسابقات، والتدريب على مجموعة من الحركات والتشكيلات لإنتاج عرض فني أدائي.

 

 

ينزح الكثير من الأطفال إلى مناطق لم يألفوها، بعيداً عن جيرانهم وأحياناً أهلهم الذين اعتادوا مجاورتهم، ما يسبب لهم إرباكاً عاطفياً، وفي معظم الأحيان يسبب فقداناً للأمان المستند إلى الانتماء، والشعور بالتهديد، وهو ما قد يكون له أثر على الطفل في أن يفقده ثقته بنفسه، أو جرأته في التفاعل مع الناس، وهو ما يدفع الكثير من المدربين إلى العمل على الأنشطة الجماعية، التي تحتاج إلى تعاون، وعمل مشترك، والتعرف على أطفال جدد، واستكشاف مساحات واهتمامات متشابهة فيما بينهم، لتشكيل صداقات، وعلاقات تكافلية وجدانياً.

التعبير بالرسم

على خلاف هذا التوجه تعمل الفنانة البصرية آلاء شهوان كثيراً مع الأطفال من العائدين إلى مناطقهم التي نزحوا منها، وبخاصة في خانيونس، متنقلة من مخيم نزوح إلى آخر، ومن شارع إلى حي أو ما تبقى منه، فقد عملت مع الأطفال في وسط البلد، وفي حي الأمل، وفي مخيمات النازحين في شارع روني صالح بمواصي خانيونس، ومدرسة أحمد عبد العزيز، وغيرها.

تسعى شهوان، من خلال عملها مع الأطفال، إلى تشجيعهم على التعبير عما يعايشونه من خلال الرسم، وبتفاعل مباشر مع الواقع المحيط، دون محاولة فصلهم عنه، كالرسم على ركام المنازل المهدمة.  لكنها في الوقت ذاته، تحاول توظيف أدوات معينة من شأنها أن تخفف من شعورهم بالخطر والتشتت؛ كالموسيقى، واللعب.

تقول شهوان عن أحد التمارين التي نفذتها في مدارس الإيواء بمدينة خانيونس: "نشاط "حلمي أنا" من أجمل الأنشطة التي نفذتها، فمن خلاله عبّر الأطفال بطلاقة عن أحلامهم وآمالهم، حيث من الأطفال من يحلم بأن يصبح طبيباً ليعالج المصابين، ومنهم من يحلم بأن يصبح شرطياً ليدافع عن وطنه".

دمى وألعاب من مخلفات مُدوَّرة

وبالانشغال في تأمين تفاعل الأطفال مع محيطهم وواقعهم الحالي، عملت الفنانة أماني الخريبي في نشاط "دميتي" مع مجموعة من الأطفال وعددهم 15، في منطقة المحطة في خانيونس، على التعرف على طرق الاستفادة من مخلفات ... بإعادة تدويرها، بالتركيز على صناعة الدمى والألعاب الجديدة التي لم تعد موجودة.

تلتزم الخريبي تجاه البيئة والاهتمام بها، وهو ما يبدو ضرباً من الجنون في ضوء الدمار الهائل، إلا أنها تؤمن بأن الحفاظ على هذه الخصلة في نفوس الأطفال بحد ذاته هو الغاية، لأهمية أثره التربوي، الذي يؤكد على ملكيتهم لهذه الفضاءات رغم انتهاكها من قبل جيش الاحتلال، وأملاً بالتخلص من مخلفات الحرب التي يمقتونها قريباً وإلى الأبد.

يقوم الأطفال في هذا التدريب بتحويل أغراضهم المدمرة، أو أشياء يجدونها في منازلهم المقصوفة، إلى ألعاب، وأدوات زينة، وأشياء أخرى، وهو ما يساعدهم، أيضاً، في إطلاق إبداعاتهم ومخيلتهم، ويجعلهم متمسكين بقدرتهم على العودة والإعمار.

تفريغ حركي لمقارعة الجوع

فيما تقف مبادرة مدرب الفنون الأدائية إبراهيم الطنة، الذي يعمل مع الأطفال المتواجدين في مركز إيواء مدرسة الفاخورة في مشروع بيت لاهيا شمال غزة، موظِفاً التفريغ الحركي، لتسليط الضوء على ظروفهم المعيشية في ظل الإبادة والمجاعة التي تواجه شمال غزة، حيث استطاع أن يعمل مع ما يقارب 18 طفلة، أعمارهن ما بين 7-15 سنة، دون مشاركة أي طفل من الذكور.

يجبر الأطفال في غزة اليوم على الخوض في أسئلة ومسؤوليات أكثر صعوبة في سن مبكرة، وعلى الرغم من تحمل الكثير من الفتيات لهذا العبء أيضاً، فإن الظروف تجبر الأطفال الذكور، على وجه التحديد، على تولي مسؤوليات ثقيلة، كتوفير الطعام، أو الماء، أو الاعتناء بالأخوة، وبالأخص في حال فقدهم أحد الأبوين أو كليهما، أو عدم قدرتهم على تأمين احتياجاتهم، ما يجعل المسؤولية مضاعفة، بحيث تقف هذه الظروف سداً آخر بين الأطفال وهذه المحاولات البسيطة، نوعاً لا مضموناً.

تسلب حرب الإبادة أطفال غزة طفولتهم يومياً، باستنزافهم وإخضاعهم لظروف قاهرة، وهو ما يأتي ممنهجاً منذ بداية العدوان على غزة، في محاولة لمسح صفة الطفولة عنهم، ووصفهم بأطفال الظلام، تمهيداً لاستباحة دمائهم، وتطبيع العالم مع الأحداث والإبادة المفروضة عليهم، حيث تقول المؤشرات إنه من المتوقع أن يسجل معدل الفقر في غزة ارتفاعاً حاداً يتراوح بين 20 و45%، حسب مدة العدوان.

ألعاب شعبية "تُخرس" صوت الطائرات

وبتلاقي الطفولة مع الهوية وأصالتها وعلاقتها في هذه الأرض، يركز المدرب حسين زويدي على الألعاب الشعبية في أنشطته، التي لا يتركها، أيضاً، لعفويتها، إنما يحاول من خلالها الاهتمام بالتركيز عند الأطفال، واستخدام ألعاب تحتاج أن يفصل الطفل نفسه عن المحيط، ويضع كل تركيزه في النشاط، حتى يتمكن من الفوز.

يحاول زويدي من خلال هذه التمارين أن يفصل الأطفال عن صوت الطائرات حولهم، وعن المشاهد الصعبة التي رسخت في عقولهم، محاولاً استرداد طفولتهم في لحظة صفاء، ولو لساعة واحدة في اليوم، أملاً بأن تعطيهم هذه الساعة مساحة لتذكر العالم بصورته الأفضل.  وتتميز هذه الأنشطة بقدرتها على استقطاب أعداد كبيرة من الأطفال، حيث يتراوح عدد الأطفال المشاركين في كل لقاء بين 37 إلى 41 طفلاً.

كذلك يستخدم المدرب سليم أبو جاسر الأسلوب ذاته، وهو الألعاب الشعبية، مع التركيز على الصيحات، والغناء، وبالاعتماد على إخراج الأصوات العالية كوسيلة للتفريغ.  فنتيجة لاكتظاظ المساحات ومراكز الإيواء، لم يعد من السهل على الأطفال التعبير عن أنفسهم، أو حتى الغضب والصراخ.

عيون ترنو إلى المستقبل

في معظم الأنشطة المذكورة، التي تعتبر غيضاً من فيض كبير، يأتي المستقبل والحلم والأمنيات كعنصر أساسي، يحب الأطفال أن يفكروا فيه ويعبروا عنه، وهو ما لفت نظر المدربين وجعلهم أقوى وأكثر قدرة على المواصلة، وهو ما انعكست به أنشطتهم البسيطة، محدودة الموارد والأدوات على الأطفال وعلى سلوكهم ونفوسهم، بما عزز من إيمان المبادرين الفعلي بدورهم، واستعادة حلمهم في تجاوز كل الظروف.  لكن هذا العمل لا يأتي صافياً سهلاً، إنما يحمل تجارب صعبة أيضاً، بمعايشة التعرف على أشخاص، وفقدهم بفرق ساعات، أو لحظات، وهو ما كابدته الزميلة هديل المدهون بفقدها الكثير من الأطفال الذين عملت معهم، وروت لهم القصص، وشاركوها أحلامهم وآمالهم، فقد كانت تزور بشكل مستمر مدرسة حمامة في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، التي قصفتها طائرات الاحتلال، لتعود للعمل من جديد، بعد فترة، بمبادرة "بارقة أمل".

وكعادتها لم تنسَ أحداً، فمن الجدير بالذكر أن أطفال غزة وشمالها يعانون الآن من العديد من الأمراض الجلدية نتيجة النقص الحاد في مستلزمات العناية بالنظافة الشخصية؛ وتحاول المدهون من خلال تصميم الأنشطة أن تقوم برفع الوعي لدى الأطفال للحفاظ على صحتهم وسلامتهم؛ علماً بأن بعض الأطفال انقطعوا عن المشاركة الجسدية بسبب إصابتهم ببعض الأمراض المعدية؛ ولكنها ابتكرت طريقة للتواصل مع أهاليهم وإرسال بعض الأنشطة ليقوموا بتنفيذيها مع أطفالهم، وترسل لهم أوراقاً وقصصاً مصورة لتلوينها وهم في منازلهم، حتى لا يشعروا بالعزلة والانقطاع.